فصل: تفسير الآيات (2- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (2- 3):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [2- 3].
{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}.
قال ابن كثير: لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه. فإنه تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما السلام، وبين ذكر التوراة والقرآن. وقال الرازي: لما ذكر الله تعالى في الآية الأولى إكرامه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن أسرى به، ذكر في هذه الآية أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام قبله بالكتاب الذي آتاه. وقال الشهاب في العناية: عقبت آية الإسراء بهذه، استطراداً، بجامع أن موسى عليه الصلاة والسلام أعطي التوراة بمسيره إلى الطور وهو بمنزلة معراجه؛ لأنه صح ثمة التكليم، وشُرِّف باسم الكليم مدمجاً فيه تفاوت ما بين الكتابين ومن أنزلا عليه. وإن شئت فوازن بين: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} و{وَآتَيْنَا مُوْسَى} وبين: {هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} و{يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}. والواو استئنافية أو عاطفة على جملة {سبحان الذي أسرى} إلخ لا على {أسرى} لبعده، وتكلفه. وضمير {وجعلناه} للكتاب أو لموسى و{لبني إسرائيل} متعلق بـ: {هدى} أو بـ: {جعلناه}، وهي تعليلية.
وقوله: {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} أي: ولياً ومعبوداً تكلون إليه أموركم؛ لأنه تعالى أنزل على كل نبي أرسله، أن يعبده وحده لا شريك له، وقد قرئ: {أَلّا يتَّخِذُوا} بالياء على الغيبة على حذف لام التعليل. والتقدير: جعلناه هدى لئلا يتخذوا. وقرئ بالتاء على الخطاب، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن أنْ بمعنى أي. وهي مفسرة لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي.
الثاني: أن أن زائدة، أي: قلنا: لا تتخذوا.
الثالث: أن لا زائدة، والتقدير: مخافة أن تتخذوا. والوكيل والموكول إليه. أي: المفوض إليه الأمور. وهو الرب. ففعيل بمعنى مفعول. ودون بمعنى غير. و{من} زائدة. أو تبعيضية. وقوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} نصب على الاختصاص أو النداء. وفيه تهييج وتنبيه على المنة. والإنعام عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة. وإيماء إلى علة النهي. كأنه قيل: لا تشركوا به، فإنه المنعم عليكم والمنجي لكم من الشدائد. وأنهم ضعفاء محتاجون إلى لطفه. وفي التعبير بـ الذرية الغالب إطلاقها على الأطفال والنساء، مناسبة تامة لما ذكر. وذكر حملهم في السفينة؛ للإشارة إلى أنه لم يكن لهم حينئذ وكيل يتكلون عليه سواه. وقوله: {عَبْداً شَكُوراً} أي: لمعرفته بنعم الله واستعمالها على الوجه الذي ينبغي. وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره، وحث للذرية على الإقتداء به. وقيل: إنه استطراد. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (4- 5):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} [4- 5].
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} أي: كتاب اللوح المحفوظ، أي: حكمنا فيه: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} يعني أرض فلسطين بيت المقدس التي بارك الله حولها. والإفساد بالكفر والمعاصي.
قال السمين: في تعدية {قضينا} بـ: {إلى} تضمينه معنى أنفذنا. أي: أنفذنا إليهم بالقضاء المحتوم. ومتعلق القضاء محذوف. أي: بفسادهم. وقوله: {لَتُفْسِدُنَّْ} جواب قسم محذوف مؤكد لمعنى القضاء، أو جواب لقوله: {وَقَضَيْنَا} لأنه ضمن معنى القسم. ومنه قولهم: قضاء الله لأفعلن كذا فيُجْرُون القضاء والقدر مجرى القسم، فيتلقيان بما يتلقى به القسم. و{مرتين} أي: إفسادتين. منصوب على أنه مصدر {لتفسدن} من غير لفظه. وعدل عنه؛ لأن تثنية المصدر وجمعه ليس بمطرد {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} أي: ولتستكبرن وتتعظمُنَّ عن طاعة الله تعالى، أو لتظلمن الناس {فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا} أي: موعود أولى المرتين، أي: وما وعدوا به في المرة الأولى، يعني وعد المؤاخذة على أولى المفسدتين: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي: ذوي قوة وبطش في الحرب، شديد: {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ} ترددوا خلال أماكنكم ومحالكم للقتل والسبي والنهب: {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} أي: مَقْضِياً لا صارف له.

.تفسير الآيات (6- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} [6- 8].
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} أي: بعد هذه المؤاخذة الشديدة، رددنا، عند توبتكم، لكم الغلبة التي كانت لكم في الأصل، عليهم: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} أي: قوماً ورهطاً. جمع نفر أو اسم جمع له. وأصله من ينفر مع الرجل من قومه. وقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} بمثابة التعليل لما قبله. أي: فعلنا ذلك لتعلموا أنكم إن أحسنتم توبتكم وأعمالكم، أحسنتم لأنفسكم، بإبقاء الغلبة لها والإمداد بالأموال والبنين وتكثير النفير: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي: فإساءتكم ضارة لها بغلبة الأعداء وسلب الأموال والبنين والنفير: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ} أي: مؤاخذة المرة الآخرة وعقوبتها. وقوله تعالى: {لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ} متعلق بجواب إذا المحذوف. أي: بعثناهم ليسوؤا وجوهكم، أي: ذواتكم بالإذلال والقهر.
قال الشهاب: عديت المساءة إلى الوجوه، وإن كانت عليهم؛ لأن آثار الأعراض النفسانية إنما تظهر في الوجه، كنضارة الوجه وإشراقه بالفرح، وكلوحه وسواده بالخوف والحزن. فالوجه، بمعنى الذات مجاز مرسل، أو استعارة تبعية. وقيل: الوجوه بمعنى الرؤساء. وهو تكلف. واختير هذا على لِيَسُوؤكُم مع أنه أخصر وأظهر، إشارة إلى أنه جمع عليهم ألم النفس والبدن، المدلول بقوله: {وَلِيُتَبِّرُواْ}. انتهى.
وقوله تعالى: {وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ} أي: الأقصى: {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ} أي: يدمروا: {مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} أي: عظيماً فظيعاً، والتتبير: التدمير. وكل شيء كسرته وفتَّته فقد تبرته. ثم أشار إلى أن فعله تعالى ليخلصوا توبتهم وأعمالهم بقوله:
{عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} أي: إذا أخلصتم الإنابة، وأحسنتم الأعمال، وأقمتم الكتاب وما نزل إليكم؛ لأنكم علمتم من سنته تعالى أنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفعه إلا بتوبة، ولذا قال: {وَإِنْ عُدتُّمْ} أي: بعد هذه التوبة والإنابة إلى الاستكبار: {عُدْنَا} أي: إلى تسليط الأعداء وسلب الأموال والأولاد في الدنيا.
{وَجَعَلْنَا} أي: يوم القيامة: {جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} أي: محبساً وسجناً يحصرهم في العذاب والحرمان عن الثواب.
قال الشهاب: إن كان- {حصيراً}- اسماً للمكان فهو جامد لا يلزم تذكيره وتأنيثه. وإن كان بمعنى حاصراً أي: محيطاً بهم، وفعيل بمعنى فاعل، يلزم مطابقته، فإما لأنه على النسب، كلابن وتامر. أو لحمه على فعيل بمعنى مفعول. أو لأن تأنيث جهنم غير حقيقي، أو لتأويلها بمذكر. انتهى.
وقيل: حصيراً، أي: بساطاً كما يبسط الحصير. مثل قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف: 41]، فهو تشبيه بليغ. والحصير بهذا المعنى بمعنى محصور لحصر بعض طاقاته على بعض. كما قاله الراغب.
تنبيه:
روي أن بني إسرائيل كان الأمر مستتباً لهم في فلسطين إلى موت سليمان عليه السلام، فلما ملك ابنه بعده، وذلك قبل المسيح بما ينيف على تسعمائة سنة، وقع من الاختلال في عهده ما أفضى إلى تقريره عبادة الأوثان. فعوجل بعد خمس سنين من ملكه بأخذ ملك مصر بيت المقدس وسلب كنوز هيكلها- المسجد الأقصى- ونهب ما فيها. ولما ساء تصرفه تمرد عليه شعبه وخلعوا طاعته. فانقسمت مملكته إلى قسمين: أحدهما: دعي مملكة يهوذا، وهي المؤلفة من سبطي يهوذا وبنيامين، بقيا خاضعين لابن سليمان.
وثانيهما: دعي مملكة إسرائيل، وهي المؤلفة من بقية الأسباط العشرة. وكان أول ملك على مملكة إسرائيل رجل يقال له يربعام، خاف من رجوع رعاياه إلى طاعة ابن سليمان إذا صعدوا إلى أورشليم في الأعياد الاحتفالية ليعبدوا الله في الهيكل ويقربوا ذبائحهم هناك. فأقام في مملكته عجلين من ذهب. وأمر رعيته بعبادتهما. ورتب لهم أعياداً احتفالية وكهنة. وقامت حروب هائلة بين ملوك هاتين الطائفتين. وكان يتخللهما من الملوك من ينزع عبادة الأوثان. إلا أنه لا يلبث الحال حين يأتي ملك آخر فيعيد الوثنية. واستمرت مملكة إسرائيل نحواً من مائتين وخمسين سنة. وفي نهاية أمرهم عظمت خطيئاتهم فسلط عليهم ملك أشُّور، ففتح السامرة- بلدهم- وسباهم إلى أشُّور وانقرضت مملكة العشرة الأسباط، ولم يسمع ذكرهم بعد. ثم أرسل مللك أشُّور قوماً من بلده وأسكنهم مدن السامرة ليعمروها مع من بقي من أهلها. وأرسل معهم كاهناً من اليهود ليقيم لمن بقي طقوسهم. فعادوا إلى شركهم وعبادة الأوثان مع الله تعالى. وأما مملكة يهوذا فبقيت بعد انقراض مملكة إسرائيل ما ينيف على عشرين سنة، وفي أواخر أيامها قام فيها ملك شرير. فزحف إليه ملك بابل نبوخذ ناصر- بختنصر- فسبى قسماً من شعبه، وكان السبي الأول.
ثم قام، بعد ذلك الملك الشرير، ابنُه، فسار على طريقة أبيه. فعاد إليه ملك بابل المذكور واستأسره هو وآله ورؤساءه وقسماً من الشعب، وسلب الهيكل. وكان هذا السبي الثاني بعد ثماني سنيين من الأول.
ثم قام فيهم ملك أشَرُّ ممن تقدم- وهو آخر ملوكهم- وفي أيامه حاصر ملك بابل المذكور أيضاً بيت المقدس، وأسره إلى بابل، وأحرق المدينة والهيكل، وسبى كل شعب يهوذا، ما عدا مساكين الأرض، إلى بابل. وهذا هو السبي الثالث والأخير.
وهكذا انقرضت هذه المملكة وكانت إقامتهم في بابل سبعين سنة. ثم أطلقوا من الأسر فعادوا إلى بيت المقدس. وجددوا عمارتها وقيام الهيكل. وبقيت اليهود تحت تسلط ملوك الفرس إلى أن ظهر الإسكندر الكبير، وغلبت اليونان الفرس وجاء الإسكندر إلى سورية فدخل بنو إسرائيل تحت حكم اليونان. وبعد وفاة الإسكندر انقسم ملكه إلى أربعة أقسام:
منها مملكة سورية ومصر. وكانت بينهما حروب متصلة. والإسرائيليون، لما كانوا بينهم، كانوا تارة تحت تملك مصر وأخرى تحت تسلط سورية. واتفق في خلال ذلك أن رفض كثير من اليهود الديانة اليهودية، وتمسكوا بديانة اليونانيين.
ثم استولى الرومانيين على فلسطين. وجرت حروب هائلة بينهم وبين اليهود، أفضى الأمر إلى تسلط الرومانيين عليهم. وتملكوا بيت المقدس. وهدم تيطس، أحد ملوكهم، الهيكل إلى أساسه. وأحرق كتب اليهود وتشتت أمرهم، ولم يبق لهم ملك ولا رئاسة بعده، وزعموا أن ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة، وزعموا أن الهيكل تراجع للعمارة ورمم، إلى أن سارت هيلانة أم قسطنطين إلى القدس وبنت كنيسة على القبر، الذي يزعم النصارى أنه قبر المسيح. وخربت الهيكل. وأمرت أن تلقى فيه قمامات البلد وزبالته. فصار موضع الصخرة مزبلة. وبقي كذلك حتى قدم عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس. فأمر بتنظيفه وبنى في قبلته مسجداً، إلى أن ملك الوليد بن عبد الملك، فجدد بناءه على أساسه القديم وبنى قبة الصخرة.
وتفصيل هذه الماجريات معروفة في كتب التاريخ. ونحن لم نورد ما أوردناه على أنه تفسير للآية. لأنها بإيجازها غنية عنه. وفي تفسيرنا لألفاظها كفاية في فهمها، إلا أن أكثر المفسرين تطرقوا لبعض ماجريات اليهود هنا، فنقحنا منها أحسن ما حرره المؤرخون المتأخرون، إيضاحاً لأفاعيلهم التي أشارت إليها الآيات الكريمة.
وقد قدمنا في سورة يوسف، أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار. وإنما هي الآيات في العبر تجلت في سياق الوقائع. ولذلك لم تذكر قصة بتفاصيلها. وإنما يذكر موضع العبرة فيها. كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
ثم بيَّن تعالى مزية التنزيل الكريم التي فاق بها سائر ما أنزل، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (9):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [9].
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي: للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها، أو للملة، أو للطريقة.
قال الزمخشري: وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف؛ لما في إبهام الموصوف بحذفه، من فخامة تفقد مع إيضاحه.
{وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} أي: يبشر المخلصين في إيمانهم، وهم الذين يعملون الصالحات كلها، ويجتنبون السيئات، أن لهم في الدنيا والآخرة ثواباً وافراً.

.تفسير الآيات (10- 11):

القول في تأويل قوله تعالى: {وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} [10- 11].
{وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي: بالبعث والجزاء على الأعمال: {أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي: في الآخرة، وهو عذاب النار.
{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} أي: مثل دعائه بالخير: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} قال أبو السعود: الآية بيان لحال المهدي إثر بيان حال الهادي. وإظهار لما بينهما من التباين. والمراد بالإنسان الجنس، أُسند إليه حال بعض أفراده. أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه. فالمعنى، على الأول: أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير. ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم، وهو، أي: بعض منه وهو الكافر، يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور، إما بلسانه حقيقة كدأب من قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، ومن قال: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70]، إلى غير ذلك مما حكى عنهم. وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه، الموجبة له مجازاً، كما هو ديدن كلهم. وقوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً} يعني بالإنسان: من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده. عجولاً يسارع إلى طلب ما يخطر بباله، متعامياً عن ضرره. أو مبالغاً في العجلة، يستعجل العذاب وهو آتيه لا محالة. ففيه نوع تهكم به. وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم، تحمل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال.
وعلى الثاني: أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير. وهو في بعض أحيانه، كما عند الغضب، يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر. وكان الإنسان بحسب جبلته عجولاً ضجراً لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه. أو يدعو بما هو شر وهو يحسبه خيراً. وكان الإنسان عجولاً غير متبصراً لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به، وما هو شر جدير بالاستعاذة منه. انتهى.
ثم أشار تعالى إلى بعض وجوه الهداية في القرآن، بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية، التي كل منها برهان نَيْرٌ لا ريب فيه. ومنهاج بَيْنٌ لا يضل من ينتحيه، بقوله سبحانه: